أطفالنا واللغة والهوية والمستقبل

21-12-2023
سارة السهيل
A+ A-

في اليوم العالمي للغة العربية يجب ان نتذكر ونذكّر الأجيال القادمة ان لغتي هي هويتي وشخصيتي وتكويني وعقلي ورابطي الثقافي مع أهلي اصدقائي وزملائي، واذا ما فقدت هذه الرابطة، فإنني أفقد بوصلتي الحقيقية في الحياة .

وللأسف، فإننا قد تجاهلنا هذه الحقيقة لعقود طويلة في بلادنا العربية، حينما حرصنا على تعليم الأطفال بدءا من مرحلة رياض الاطفال على اللغات الأجنبية على حساب لغتنا العربية الأصيلة اللغة المقدسة التي هي جوهر وجودنا على أرضنا الطاهرة، فصار الصغار يتحدثون الانكليزية والفرنسية بطلاقة ونحن نفرح بهم ونهلل على قدراتهم على التعبير بهذه اللغات الاجنبية في مقابل عدم الاعتناء بتعليم اللغة العربية الأم وحتى لا تفهموني خطأ أنا مع تعليم اللغات الأجنبية ولكن بعد إتقان وتمكين اللغة العربية من الطفل والغوص في بحارها العميقه ولكن تسابقت الأسر العربية على تعليم صغارها اللغات الاجنبية واكتساب معارفهم علومهم بها فأحدث ذلك فجوة ثقافية وهوة كبيرة بين هؤلاء الأطفال وباقي افراد المجتمع، وباتوا يشعرون بالغربة عن أهلهم وأفراد مجتمعهم. 

فتخيلوا معي ابنك أو بنتك وتشعر معهم بغربة ليس لأنه من جيل مختلف فهذا طبيعي، ولكن لأنه تشرب قيم وثقافة اللغات التي تغذى لسانه عليها ونطق بها وتعلم وفكر بها، فأصبحت الاسرة من داخلها غريبة عن بعضها وأدوات التواصل بينها ضعيفة لأقصى درجة.

إضافة الى المدارس كان هناك خطأ فادح عندما استعانت الأسر بالمربيات الأجنبيات اللواتي علمن  أولادهن نطق اللغات الاجنبية، بينما باقي دولنا العربية تمادت في هذا الخطأ بالتوسع في انشاء المدراس التي لا تعلم اللغة العربية او تعلمها كمادة غريبة كمن يتعلم الإسبانية في فرنسا.

وبالضرورة، فإنني لست ضد تعليم اللغات الأجنبية، فهي تفرضها معطيات عصرنا والانفتاح على الاخر ومتطلبات العمل والتواصل عبر محطات الكون فكريا وثقافيا واقتصاديا والمشاركة بالمؤتمرات والندوات كما نحتاجها ايضا سياسيا وإعلاميا للتعريف بقضايانا، والقرية الكونية التي نعيش في كنفها، فلنتعلم اللغات كما قلت لكن ليس قبل ان نزرع لغتنا الأساسية وقيمنا وثقافتنا في عقول الصغار ونرسخها، وكما قيل في الأثر “العلم في الصغر كالنقش على الحجر“ أي أنه يثبت ولا يتزعزع، حتى لا تكون النتيجة ظهور أجيال منسلخة عن ثقافتها وجذورها الحضارية وقيمها الاجتماعية في مقابل انتماء هذه الاجيال إلى ثقافات لا تشبهنا التي تعلمها في صغره وشكلت فكره وعلاقاته وانتماءاته الثقافية والحضارية.

وهذا يعني اننا بأيدينا وبجهلنا وغفلتنا ساهمنا في تغريب أبنائنا عن لغتهم العربية وعن أوطانهم والانتماء لها من ناحية أخرى، فان الكثير من الأسر العربية من المحيط إلى الخليج انجرفت في تيار التباهي والمظاهر الاجتماعية الكاذبة والخداعة  والتعالي على الاخرين بتعليم ابنائها اللغات  وكأن هذا الأمر نوع من البريستيج وليس من حب التعليم وكأنه حقيبة ماركة تحملها سيدة ما ولا يعبأون بما يكلفهم ذلك من تكاليف مادية باهظة بعضهم لا يقدر عليها، بل ويكاد يستدين ليغطي تكاليف التعليم في هذه المدارس الدولية إضافة الى التكاليف التي يدفع ثمنها الاهل لاحقا عندما يتغرب الطفل عن مجتمعه وتأتي الكوارث على التوالي. 

اعود واكرر أنا مع معرفة الاخر ومحبة الجميع والتفهم للمجتمعات المتنوعه واخذ ما يناسبنا وينفعنا منها ولكن نرفض ان نتشبه بالآخرين بكل ما لديهم وكأن ليس لدينا تاريخ وارث حضاري وفكري وثقافي نفخر به فأي حمق نرتكبه ليلا نهار !، وبعد ذلك نلوم على الأطفال بأنهم غرباء عن المجتمع، ولا يستطيعون التواصل مع الناس عندما يكبرون في العمل والشارع والاقارب والمناسبات الاجتماعية، وأنهم منسلخون عن واقعم وعن عروبتهم، بينما نحن الكبار العقلاء  كنا سببا حين سعينا لاكتساب وجاهة اجتماعية وإظهار المكانة الاجتماعية والمستوى العلمي عبر تعليم صغارنا اللغات الاجنبية ولم نعلمهم العربية وكأنها عيب وعار ، ودون  أي احترام  للغتنا .

فكل الأمم تفتخر بلغاتها وتحافظ عليها كحفاظها على أرضها ودينها لأنها تشكل هويتها وكيانها ووجودها حية نابضة بين الشعوب والأعراق، بينما نحن قد غفلنا في غمرة التحديث والجري وراء الغرب هذه الحقيقة ان الهوية واللغة وجهان لعملة واحدة فاذا سقط من وجه اختفت العملة.

يؤكد على ذلك المفكر الألماني «فيخته» بقوله إن "الذين يتكلمون لغة واحدة يشكلون كيانًا واحدًا متكاملًا بروابط متينة وإن كانت غير مرئية، ف اللغة هي الخيط غير المرئي الذي تنتظم فيه حبات عقد أمة من الأمم؛ فتتوحَّد مشاعرها وتقوى روابطها".

والمثير للشفقة حقيقة حين ترى اثنين عرب في بلد عربي ليس بينهم اجنبي او لا يفهم اللغة العربية ويتكلمون في بلد عربي باللغة الانكليزية او الفرنسية يصيبني فضول مدموج بالشفقة على من يفتقدون للثقة بأنفسهم والاعتزاز بها وكدارسة لعلم النفس اصنف هذا ضعفا وعدم ثقة بالنفس وخجلا من الواقع والهروب منه إلى عالم آخر، فهل نرى بريطانيا يتكلم اللغة الصينية مثلا مع بريطاني آخر على ارض بريطانيا؟ هل نرى فرنسيا يتكلم مع صديقه الفرنسي على ضفاف نهر السين باللغة التركية؟ هل نرى أميركيا عاش في لبنان عشر سنوات وأتقن اللغة العربية وعاد لبلده فيجلس مع صديقه الأميركي مثل حالته ويتكلم معه باللغة العربية في نيويورك مثلاً؟

هل كان تراجعنا كعرب سببا بهروب ابناء العرب من لغتهم كنوع من الهروب الى الجهة المنتصرة حاليا؟

وبالعودة لضعف اللغة العربية اليوم بين ابنائنا فهو نتاج طبيعي لتكريس اللغات الأجنبية واعطائها الاولوية في التعليم، وقد أدى هذا الضعف اللغوي لتعليم العربية إلى ذوبان الشخصية، وفقد الهوية، وضعف الصلة التي توحد الأمة وتشريعاتها، وتحقق لها استقلالها، وصمودها في مواجهة التحديات الدولية.

واحقاقا للحق، فان الاسر العربية لا تتحمل مسؤولية جريمة اهمال لغتنا العربية والانتصار للغات الأجنبية عليها، وانما تتحملها كل الجهات المسؤولة عن اصدار التراخيص للمحال التجارية والعلامات التجارية والمقاهي والشركات والمنتجات المصنعة في دولنا العربية تحمل اسماء أجنبية. فالشوارع العربية في معظمها تحمل لافتات باللغات الاجنبية وكذلك متاجرها ومنتجاتها، فأين المسؤولون من هذه الجريمة .

انني أدعو لصحوة تعيدنا الى فجر لغتنا العربية الجميلة وايحاؤها باتخاذها عنوانا لافتة لكل محل تجار او منشأة صناعية او علامة تجارية، واعادة تصحيح تصوراتنا الاجتماعية بشأن الوجاهة الاجتماعية، فالوجاهة تأتي بالحفاظ على الهوية العربية التي قوامها اللغة العربية.

أدعو كل المسؤولين عن التعليم في بلادنا العربية بضرورة التعليم الجيد للغة العربية وتكون لها الأولوية في التعلم خلال مراحل التعليم الابتدائي، ثم تأتي اللغات الاجنبية كلغات ثانية.

 

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب
 

آخر الأخبار

شيروان الشميراني

أحداث البرلمان وتعمد التعطيل

أن يحدث الاشتباك والمناوشات بالأيدي والكراسي داخل القاعات لاسيما في مجلس النواب وعند تمرير المسائل الحساسة، أمر معروف مشهود على المستوى العالمي، أن يحدث الكسر في الرؤوس يدخل في باب القبول أيضاً لأنه كسر أهون من كسر بالإطلاقات والقنابل اليدوية، لكن ان تكون المناوشات مبرمجة وبقصد التعطيل لأن النتيجة لا تساير هواك، فهذا خارج النيات الصافية والعمل المخلص الجادّ.