سبايا الخلافة... لم نر النور 18 يوماً

16-05-2019
نوزاد محمود
الكلمات الدالة سبايا الخلافة دهوك داعش
A+ A-

رووداو – دهوك

لو أنك جالس حيث أجلس، وشاهدت شعرها المتشابك وصمتها واستغراقها العميق في التفكير، لتساءلت: "هل خاصمت الحياة لدرجة أنك لم تعودي تنظرين في المرآة بين الحين والآخر؟" فتكسو وجهها ابتسامة ملأى بالقلق، وتنتقل بناظرها بعيداً عن قدح الماء لتنظر إلي وتقول: "هكذا هي حياتي، أنا بطبيعتي أحب السكوت".

وعندما طلبت من أفراد عائلتها أن يتركونا وحدنا لتكون حرة في سرد قصتها، بدا على "فيان" شيء من الارتياح، ثم خيم الصمت لدقائق على جو الغرفة المتعبة، لكنها فجأة انقلبت إنسانة ثانية وقالت وهي تضحك: "ألن يربكك ذكر كل تلك الأسماء؟"

- أية أسماء؟

فيان: أسماء الدواعش الذين اتخذوني سبية.

- وهل اختلطت أسماؤهم عليك؟

فيان: لا، حتى الذين بقيت عندهم يوماً واحداً.

- لماذا؟

فيان: لأنهم كانت عندهم نساء كثيرات، كان بينهم مسلحون يقولون إنهم استبدلوا خمسين جارية، لكن ليس من السهل أن أستطيع التحدث عنهم جميعاً.

كان بيتهم في حي "الست زينب" في سنجار، وكان هجوم داعش على سنجار بمثابة كابوس حل على عائلتها، التي لم تنتبه في الليل إلى ما يجري، وعندما نهضوا في الصباح، وجدوا الدنيا كلها قد تغيرت في الليل والشوارع ملأى بأعلام سود "كان جميع جيراننا قد هربوا، لم نكن نعرف ماذا ينبغي أن نفعل... كنا نتبادل النظرات مشدوهين ولا أحد يعرف ما هو الحل".

قررت عائلة فيان أن لا تستسلم، ولكن كيف؟

"ارتأينا أن لا نغادر الدار، لكن عندما رأينا مسلحي داعش منتشرين في كل مكان، توجهنا إلى دار قريبٍ لنا داخل سوق سنجار، كان عندهم قبو يمكن أن نختبئ فيه".

ومثل اليهود الذين بنوا لأنفسهم سجوناً خفية، في أيام الهولوكوست، للنجاة من قبضة النازيين، أخفوا أنفسهم عن العالم.

18 يوماً مظلماً

لم يكن القبو مزوداً بالطاقة الكهربائية، وحتى إن كان فيه شباك، ماكانوا يملكون الجرأة للنظر من خلاله.

"أذكر أنهم جاؤوا في أحد الأيام بمتفجرات فجروا بها حي "الست زيتب"، أمضينا 18 يوماً في قبو ذلك البيت، وكان كل يوم هناك جحيماً بحد ذاته، ولما دخل الدواعش البيت واكتشفوا القبو عثروا علينا. أخرجونا جميعاً وفصلوا بيننا فوراً".

أول ما طلبه المسلحون المتشحون بالسواد، من الإزيديين الذين كانوا في القبو، أن يسلموا، "اضطررنا إلى النطق بالشهادتين، ثم قال أمير فيهم: جزاء قراركم هذا هو أن ننقلكم إلى "تل البنات" حيث يسكن العديد من العوائل التي أسلمت. بعث ذلك القرار بعض الراحة في نفوسنا، لكننا كنا نشكك في أنهم صادقون".

نقلوهم إلى قرية كوجو ليقيموا بها نحو ثلاثة أشهر، وكان مسلحو داعش يترددون على القرية يومياً ليعود كل منهم بفتاة جميلة إلى مقرهم، وحسب ما تقول فيان، كان بعض المسلحين يحمل أدوات تعذيب ليرهبهم بها.

لم تقع فيان في شباك أحد طوال فترة بقائها في كوجو، لكن بعد نقلها مع مجموعة أخرى من النساء إلى تلعفر "أخذونا إلى قاعة، وعزلونا عن بعضنا، وقالوا للمسنات سنعيدكن إلى كوردستان... أنتن عبء ثقيل علينا، هناك شاهدت أمي وجدتي للمرة الأخيرة في صف اللواتي تقررت إعادتهن إلى كوردستان".

أخذوا فيان ومجموعة فتيات أخريات إلى مقر "أبو علي" وهناك وضع مسلح روسي ختم ملكيته عليها.

في بيت المسلح الروسي، أدركت فيان سريعاً أن بإمكانها الهرب عبر الشباك: "كانت خطتي أن أهرب ليلاً، لكنه عندما عاد في المساء، شعر بأنني أخطط لشيء فجاء بحدّاد وسد الشباك بصورة لا تسمح حتى لقِطة بالخروج من خلاله".

بعد قضاء شهرين عند ذلك المسلح الروسي، لم يكن بينهما خلالهما غير كلمات قليلة للتفاهم، ثم جاءت فتاة أخرى لتخرج فيان من حياة الروسي الذي باعها بخمسمئة دولار.

"أنتم لن تكونوا مسلمين أبداً"، كان صالح يقول هذا باستمرار ويطعن في دين فيان. كان في الغالب يعذبها بكلامه الجارح: "لماذا لا تهاتفين ملك طاووس فيأتي ليأخذك من هنا وينقذك؟ أليس هو ملكاً؟".

أو كان يسخر منها ويقول: "ها يا ابنة عبد النار، لماذا لا تقبلين يدي بدلاً عن تقبيل الأحجار؟".

كان صالح عربياً بدوياً، أمضى أغلب حياته في خيمة، ويبدو مما تقوله فيان أنه ليس مطلعاً كثيراً على الإسلام، وكان قد قال لفيان عدة مرات: "رغم أن قسماً من الإزيديين تشهدوا ويؤدون الصلاة، لكن ذلك كان فقط للحفاظ على حياتهم وأنا متأكد من أنكم ستعودون لعبادة الشيطان إن أتيحت لكم الفرصة".

بعد مرور ثلاثة أشهر، باعها صالح لليبي يدعى "أبو هشام" الذي أخذها إلى سوريا ليستقرا في دير الزور، ومع أن أبا هشام لم يكن شخصاً صعب المراس، لكنه كان دائماً في مقدمة الذين يلبون نداء الحرب، لذا وبعد فترة قصيرة من انضمامه لداعش، منح منصب أمير مكافأة على شجاعته.

كان أبو هشام من النوع الذي يمكن لفيان أن تتجاذب معه أطراف الحديث أحياناً. فقال لها ذات يوم: "أعلم أنك تبحثين عن فرصة للنجاة بنفسك، أهنئك على هذا فهي شجاعة، لكن إن أمسكت بك وأنت تهربين، فسأقتلك".

عملية فرار فاشلة

كلما أتيحت فرصة لقاء بين السبايا الإزيديات وأينما التقين وكانت لديهن فرصة للتحدث، تحدثن عن الهرب وطرق النجاة. في واحد من أيام الحر من تلك السنة، تعرفت فيان إلى فتاة اسمها نجلاء، كانت فيان حينها جارية لمسلح يدعى سليمان الليبي، كان سليمان شديداً، "قتل فتاة إزيدية في غرفته لأنها رفضت مضاجعته".

اتفقت فيان ونجلاء على أن تسلما يوماً أمرهما للمجهول وتفرا، وفعلاً التقتا ذات مساء في مكان حددتاه مسبقاً وانطلقتا.

"قطعنا عشرات الكيلومترات مشياً على مدى يومين. هربنا ولم نلتفت إلى الوراء. بدون أن يكون معنا زاد ولا ماء. في اليوم الثاني ألقى عدد من مسلحي داعش القبض علينا وسلمونا إلى المحكمة الإسلامية، التي قررت إعادتنا إلى سوق النخاسة".

تورمت قدما فيان نتيجة السير يومين وسال منهما الدم، لكنها لم تفقد الأمل في الهرب، لأنها كانت متأكدة من أن التحرر من أتون خلافة أبي بكر البغدادي، لا يأتي إلا بالتضحية بدمها ونفسها.

سأموت أنا ولكنك ستتحررين

وجدت فيان نفسها في مبنى به عدد آخر من النساء ويحرسه عدد من المسلحين، وفيه شخص يبدو أنه يتولى الأمور الإدارية للمبنى. كل الوجوه هناك كانت كوجهها مليئة بالقلق والتوتر. بين الحين والآخر، يأتي أحدهم ويجيل النظر بين النساء ويتمعن في تفاصيل أجسادهن بنية الشراء. إنه سوق نخاسة. النساء اللواتي يتم بيعهن هناك، كما تقول فيان "يتبعن كالأنعام مَن اشتراهن إلى حيث يريد".

كانت فتاة سمراء يبدو أنها اختطفت وهي في مطلع مرحلة البلوغ، تجلس إلى جانب فيان وتروي لها قصتها، تتحدث لها عن كل رجل ابتاعها وعن مللها من الحياة وآلامها "مازالت صرخات فتاة تتردد في أذني عندما ألقت بنفسها من فوق مبنى وانتحرت بعدما اغتصبها أربعة أشخاص معاً، لا أدري لماذا لم أنتحر حتى الآن، فيان، أرى في عينيك مستقبلاً أفضل، ستتحررين وتعودين، لكني واثقة أني سأنتحر وأموت".

بعد فترة، اشترى أبو إبراهيم السعودي، فيان، وأخذها إلى حيث عائلته، التي كانت تتألف من زوجته السعودية وطفليه، وهكذا أصبحت تحت رحمة الزوجة، التي كانت لديها باستمرار حجة لضربها "كسرت يدي ذات مرة بحجة دخولي غرفتهم الخاصة، وكسرت يدي الثانية في مرة أخرى بحجة أني أكلت من طعامها، ولكنهم باعوني بعد فترة قصيرة".

في ظل فوضى الحرب والقصف اليومي وغياب الأمل، كانت الأيدي تتقاذف فيان في ما بينها ككرة يتقاذفها اللاعبون. فوجدت نفسها في ما بعد في بيت أمير يدعى "أبو حمودي"، لكن أبا حمودي قتل بعد فترة قصيرة نتيجة قصف جوي، والذي أثار استغراب فيان كان إصرار عائلته على الاحتفاظ بها. مرت أيام قليلة، وقالت أم الأمير لفيان: "أوصاني ولدي يوماً وقال: إن أنا فارقت الحياة، عليكم أن لا تبيعوا هذه الفتاة، يجب أن لا تغادر هذا البيت حتى لو انقلبت الدنيا".

تشتري أخاها الأصغر

بين ظهراني تلك العائلة، حيث مكثت فيان قرابة العامين، تحولت أحوالها إلى الأحسن، فحصلت على حرية الخروج إلى السوق وتوفير احتياجاتها اليومية. سمحوا لها بتناول الطعام معهم وحتى باستخدام فراشهم ومقتنياتهم بدون أن تتعرض لعقوبة: "لكن كل ذلك لم يشعرني بالسعادة، فقد كنت أفكر باستمرار في العثور على أفراد عائلتي الذين تم تفريقهم".

خلال تلك الفترة جمعت بعض المال لعله يساعدها، عندما تتسنى لها الفرصة، على شراء نصف طريق الفرار والنجاة. كان مبلغ ستمئة دولار في تلك الظروف مبلغاً جيداً. كانت فيان تبحث في أحد الأيام عن زوج أحذية لها لتشتريه من سوق دير الزور. فجأة رأت أخاها ذا السبع سنين يتبع أحد مسلحي داعش. تبعت فيان الرجل ودموعها الحرى تجري، لتتوسل إليه لعله يسمح لها بالتحدث إلى أخيها قليلاً.

"كان ذلك المسلح ممن يمكن التحدث معهم، فحصلت منه على عنوانه كاملاً وعدت، ثم بدأت أفكر في طريقة أستعيد بها أخي"، لم يزر النوم عيني فيان في تلك الليلة، كانت تتلوى في فراشها كحية جريحة وهي تنتظر طلوع شمس النهار. ذهبت إلى الرجل وعثرت عليه، وبذلت معه كل جهد لتستعيد أخاها "وأخيراً، وافق على أن يعيده لي لقاء مبلغ من المال، أخذ مني خمسمئة دولار وأعاد إلي أخي".

بعد ذلك أخبرها أخوها بأنه كان يتلقى تدريباً صعباً في مركز تدريب بدير الزور.

بقيت مع أخيها في تلك الدار عدة أسابيع. خلال تلك الفترة استمرت في البحث والتحري لعلها، من خلال المهربين أو الذين يسهلون الخروج، تجد طريقاً للعودة. حصلت أولاً على هاتف محمول واتصلت بكوردستان "أخبرني أحد أقاربي بأنهم سيعثرون على شخص خبير وموضع ثقة". بعد أيام تلقت الخبر السار، تم ترتيب كل شيء، ولم يبق إلا أن تجد فيان وأخوها فرصة للوصول إلى مكان محدد "وصلنا إلى حيث يوجد المهربون بأية حال، ومن خلالهم وصلنا إلى كوردستان".


تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب