سبايا الخلافة... "لولا خيانة جيراننا لما احتل داعش أي قرية إزيدية"

21-07-2019
نوزاد محمود
الكلمات الدالة داعش سبايا الخلافة
A+ A-

رووداو- دهوك

شاهدت (فريدة) أهل قريتها مجتمعين اثنين اثنين وثلاثاً ثلاثاً يتناقشون، وبعد وصول داعش إلى القرية أدركت لماذا كان أهالي قرية (حردان) مخطوفي اللون، وخاصة كبار السن منهم الذين سمعوا شفاهاً الروايات عن قصص "الفرمانات" التي استهدفت الإزيديين.

وبينما كانت ذاهبة لشراء بعض المنظفات لأمها من محل قريب إلى بيتهم، سمعت أحد الشباب يقول: "يقولون إنهم يذبحون الناس؟". كادت المنظفات تسقط من يدها. هناك أيضاً، سمعت أحدهم يقول: "لا يتوانون عن أي شيء، إنهم متشددون جداً ضد كل من ليس مسلماً".

كانت فريدة حينها في الحادية عشرة من العمر، لم تكن تفهم تلك الأمور جيداً ولم تكن تعرف أنه لن يمضي وقت طويل لتصبح سبية في واحدة من الغزوات.

بعد ثلاثة أيام، وصل مسلحو داعش إلى قرية حردان، وما كان يتحدث الشباب عن وقوعه في الموصل، باتوا يشهدونه في قريتهم.

التجربة المرة التي مرت بها فريدة في السنوات التي تلت تلك الحادثة، تجعلني أشعر أني أجلس في مواجهة فتاة ذات عقل أكبر من سنها بكثير: "لولا مساعدة جيراننا العرب لما استطاع داعش أن يحتل أياً من قرانا. جاءنا جيراننا العرب على أنهم وسطاء ووعدوا بحمايتنا، واحتالوا علينا وجمعوا ما في قريتنا من سلاح، ثم أرشدوا داعش إلى الطريق الذي عليه أن يسلكه للدخول إلى قرانا".

رغم ابتعادهم عن القرية ووصولهم إلى طريق يؤدي إلى جبل سنجار، تم أسر فريدة وعائلتها بصورة مفاجئة. تقول فريدة: "رأيت أغلب أهالي قريتنا. حتى الذين غادروا حردان قبلنا. كانوا جميعاً في قبضة داعش. كانت بجانبي فتاة جميلة جداً تتوسل إلى المسلحين لكي لا يقتلوا أباها".

هناك قاموا بفصل النساء عن الرجال، وأخذوا النساء إلى تلعفر. بقين هناك نحو شهر. ثم نقلوهن إلى سجن بادوش.

وقعت معركة بالقرب من بادوش، وخاف مسلحو داعش من أن تؤخذ المنطقة منهم، فسارعوا إلى نقل الأسرى إلى كسر المحراب. هناك أسكنوا كل عائلة في بيت مهجور "جاء مسلح داعشي وقال أريد أن أبلغكم ببعض الأخبار عن الإزيديين لم تسمعوا عنها حتى الآن. لقد دخلوا في الإسلام جماعات في قراهم ومناطقهم، وجزاء لهم أعيد لم شملهم، وسنأخذكم إليهم".

لكن عند وصولهم إلى القرية الجديدة (قزل قويو) تبين لهم حجم الكذبة التي أطلقها ذلك المسلح، فقد كان إسلامهم كذبة خداعة أو اضطراراً للمحافظة على حياتهم. بدأت مأساة فريدة في القرية الجديدة، في المساء الذي وقعت فيه عليها عينا ملتح متوسط القامة في الأربعين، اسمه أبو مسعود.

تقول فريدة: "جاء عدد من المسلحين، وأخرجوني من صف البنات وقالوا إن علي أن أرافقهم. رغم أن جدتي قاتلت قدر ما أوتيت من قوة لأبقى معها، لكن المسلحين أبعدوها. كان أبو مسعود ينتظرني في بيته في القرية نفسها. طلب مني أن أغتسل وأرتدي الثياب التي هيأها لي".

ومع أنها رفضت الانصياع له في البداية، لكنها اضطرت للاستسلام في الأخير وتحت التهديد: "هددني أبو مسعود، وقال إن عصيت أوامري سأرسل المسلحين في طلب جدتك وسأقتلها أمامك. كان أول شخص اغتصبني. لا أستطيع ولا أعرف كيف أصف مدى ضعفي ووحدتي في تلك الليلة".

ليس غريباً علي أن فريدة لا تستطيع الإجابة عن أسئلتي جيداً. فعندما أسألها ما هي الحرية؟ يتشتت ذهنها وتلتزم الصمت. أعلم أن الحرية لم تعرض على فريدة قيمتها الحقيقية حتى الآن. تعاني فريدة من ذكرياتها التي لا تستطيع أن تحملها خارجاً كبساط مغبر وتنفضها.

أولادكم المستقبليون لنا

لأنها رفضت من البداية أن تتكلم ولو كلمة واحدة بالعربية، كان أبو مسعود يظن أن فريدة لا تفهم ما يقول. لهذا كان يتحدث عبر الهاتف بحرية مع مسلحي داعش في محضر منها. كانت تعرف أنباء الحرب وهزائم وانتصارات داعش والسيارات المفخخة المعدة للتفجير "لكن أغلب حديثهم كان عن الإزيديات، سمعته يقول ذات مرة للشخص الذي على الطرف الآخر من الخط: إن ما لم تره إلى الآن موجود عندي".

وحسب ما سمعت من اتصالات أبي مسعود الهاتفية، عرفت أنهم كانوا يشتكون كثيراً من ضربات وحدات حماية الشعب والبيشمركة، ومن قصف طائرات التحالف، وكان يكافئ المسلحين "الشجعان" بإهدائهم سبايا.

سألت فريدة أبا مسعود عدة مرات: كيف تسمحون لأنفسكم بالتصرف على هذا النحو مع طفلة صغيرة مثلي؟ لكن ضحكته كانت أكثر إيلاماً من رده، وهو يقول: "لقد قتلنا آباءكم وإخوانكم وبناتهم ونساؤهم حلال لنا. مهمتكم الوحيدة هي خدمتنا، وأولادكم المستقبليون ملك لنا".

بقيت فريدة ثلاثة أشهر في بيت أبي مسعود، الذي تقول إنه كان في مثل سن أبيها. حدث ما هو أسوأ، عندما أخبرها أن رجلاً يريد أن يبتاعها. كانوا يدعونه أبا فاطمة وأحياناً أبا عائشة، وكان اسمه الحقيقي عبدالحكيم، ويبلغ من العمر 50 سنة: "دعوت وصليت كثيراً لكي لا تتم البيعة، لكني وجدت نفسي في بيته في نهاية المطاف".

قانون داعش الخاص بالجواري كان يعطي حق معاقبة الجارية للمالك فقط، حتى إن ارتكبت الجارية خطأ كبيراً. كما كان من حق المالك وحده أن يدخل الغرفة التي تبيت فيها الجارية. رغم أن أبا فاطمة كان كبيراً في السن ومنهكاً، لكنه كان يمتلك من القوة ما يكفي لمعاقبة فريدة: "كان أحياناً يصب عليّ جام غضبه الناتج عن هزيمة داعش في المعارك".

لم تكن تعرف لماذا يعيش ذلك الرجل وحيداً. بقيت عنده سنتين في الموصل. كانت دائماً تفكر في العثور على طريق للهروب، جربت الكثير من الفرص والثغرات التي في البيت، لكنها فشلت في كل مرة. كانت مشكلة فريدة أن مالكها، لكونه كبيراً في السن، لم يكن يخرج للقتال إلا قليلاً. في يوم من الأيام، أحست بأنه ليس موجوداً في البيت، وأنه آن الأوان لتجرب حظها مرة أخرى، ففتحت الباب الخلفي وخرجت لتجده جالساً في الباحة الخلفية، ولما رأى فريدة بذلك المنظر، صاح بها: "أيتها العاهرة، تريدين أن تهربي؟ تريدين أن تجبريني على بيعك لأسوأ الرجال ليعيد إليك صوابك بالضرب والركل. ضربني ضرباً مبرحاً ومن يومها بدأ يفكر في بيعي".

أجيروني رجاء

مازالت فريدة حزينة بسبب خنجر الغدر الذي غرزه العرب من غير المنتمين إلى داعش، في أجسادهم. تروي قصة صديقة لها قررت في منتصف إحدى الليالي أن تهرب، "قلنا لها سيطلقون النار عليك، وربما نبه نباح الكلاب حرس الدواعش وأرشدهم إليك. صحنا كثيراً أن لا تذهبي، لكنها ذهبت ولم تلتفت إلينا ولم ترد".

كان الزمن في تلك الليلة يبدو وكأنه قد توقف بالنسبة إلى فريدة وبقية البنات والنساء، ولم يكن الوقت يمضي. أحاطت مئات الأسئلة بمغامرة تلك الفتاة البالغة 19 سنة من عمرها. خرجت الفتاة، وبعد أن سارت ساعات مبتعدة عن تلك القرية، وجدت بصيص ضوء. طرقت باب دار، لتطلب منهم شربة ماء، أو ليخبروها على الأقل أين هي الآن؟ وجدت نفسها، وقد خطف لونها وتقطعت أنفاسها، في مواجهة رجل سألها من خلف الباب: ماذا تطلبين؟

قالت: اسقوني شربة ماء، وآووني عندكم ساعة، أنا في محنة وبحاجة إلى العثور على أهلي.

أدخلها الرجل الذي يرتدي دشداشة، إلى البيت. أيقظ أهله وطلب منهم إعداد الشاي لها وسقيها، حتى يخرج هو ويعود، وعندما عاد، كان برفقة عدد من مسلحي داعش: "ألقوا القبض على المسكينة وأعادوها إلى مالكها، الذي استمر في ضربها حتى وقت الضحى، ليقتلوها في اليوم التالي".

باع الرجل المسن فريدة لشخص يدعى عبدالله، الذي تقول فريدة إنه كان متزوجاً وله أختان، لكنه كان مثل الباعة المتجولين في القرون السابقة، يتواجد كل أسبوع في مكان، "وكان علي أن أرافقه إلى كل مكان، ارتبكت حياتي تماماً عندما طلب عبدالله من زوجته وأختيه أن يهربن، لأنه كان علي بعدها أن أرافقه باستمرار، إلى المعارك، إلى ميادين إنزال العقوبات وقطع الأعناق، لقد دمر روحي".

بإصرار منه، قام بتسفير عائلته إلى تركيا. كان متيقناً من أن حبل سلطة داعش في الموصل قد بدأ يتآكل ويكاد ينقطع، "لا أعلم لماذا أخذني يوماً إلى مستشفى القادسية، وسلمني إلى طبيب يدعى دكتور إحسان. عاد بعد خمسة أيام، وسلمني لعائلة لم تكن داعشية، لكنه كان يثق فيها، كانت العائلة تخاف كثيراً من عبدالله، وسلمتني لشخص يدعى جدو".

سنذهب معاً إلى البيشمركة

كانت أشعة الشمس قد فقدت شدتها وقوتها الحارقة، وكانت غيوم الخريف قد ظهرت في السماء. تم تسليم فريدة لـ(جدو) في أرض خلاء، ولم تكن تعرف هل هو صادق أم أنه كان يختبرها، "واجهني وقال: فريدة أريد أن أسلمك للبيشمركة. هناك وصل عدد من الدواعش، وكان جدو يعرفهم، كانت معهم فتاة إزيدية لم أكن أعرفها، لكنهم كانوا قد ألقوا أزياءهم الداعشية. قالوا لجدو إنهم يريدون الاستسلام للبيشمركة".

عندها اطمأنت فريدة إلى أن جدو لم يكن يختبرها، وأن داعش وقواته لم يعودوا قادرين على الصمود أكثر. في تلك الأيام، كان الأذكياء هم الذين عثروا على طريق السلامة. بعد أن حلقوا لحاهم وارتدوا الملابس المدنية، توجه المسلحون إلى حدود مواقع البيشمركة. سألوا الفتاة هل تذكرين رقم أي من أفراد عائلتك؟ قالت: أبي. جاؤوها بهاتف محمول.

تقول فريدة إنها كانت، طوال الطريق إلى حيث مواقع البيشمركة، تفكر كيف أن دولة عظمى كأمريكا بآلاف الطائرات والجيش الذي لا تعد إمكانياته، كما كانت ترى في الأفلام، عاجزة عن تحريرهم، "كانت أمريكا قادرة على أن تمنع موت عشرات الأطفال جوعاً. كانت تستطيع منع هتك أعراضنا. لم ينقذنا أحد، بل نجونا نتيجة لهزيمة داعش".

تبكي فريدة، ولا تهتم بالكلمات التي أقولها لأواسيها، وكأنها اعتادت حقيقة أن الوحيدين يجب أن يواسوا أنفسهم بدموعهم فقط، "أتعلم أني لم أعش حياتي كطفلة؟ كنت في الحادية عشرة عندما اغتصبوني، وكم هم الذين اغتصبوني على مدى خمس سنوات؟ لقد رأيت طفلة في التاسعة تعرضت للاغتصاب وهي لا تعرف اسماً لما حصل لها، لأنها لم تكن تعرف عن تلك الأمور شيئاً. سيكون مصيرنا على نفس الشاكلة. مازلت أتساءل، هل ماتت صديقاتي أم مازلن على قيد الحياة؟ ترى ما الذي يجري لهن؟ هل سنعود مرة أخرى إلى حيث كنا نعيش أم لا؟ ما هي الحرية وما قيمتها عندما تكون قد فقدت القسم الأكبر من أهلك ولا تعرف إلى أين يقودك مصيرك؟"


تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب