سبايا الخلافة.. تظاهر أخي بأنه داعشي لينقذني

23-02-2019
رووداو
الكلمات الدالة سبايا الخلافة المسلحون داعش
A+ A-

رووداو - دهوك

كانت (ليلى) تقترب من سنتها الثالثة في الأسر، وكانت عند تاجر سعودي (أبو حمزة)، ذلك السعودي الذي كان يزداد ثراء كلما زادت فتاوى داعش الخاصة بأسلاب وغنائم الحرب.

كان مسلحون من قوميات وجنسيات مختلفة يترددون بصورة يومية على منزل أبي حمزة لشراء الجواري، وتقول ليلى: "كان بعضهم لا يرضى بأية فتاة، فيذهبون ويقولون سنعود لاحقاً. لكن تاجراً اختارني وأخذني".

كانت قسوته تضاهي ثراءه، وخلال ثمانية أشهر قضتها ليلى عنده، باتت مجازفة متمردة وحاولت الانتحار "كلما طلب مني شيئاً كنت أفعل العكس، سئمت الإهانة والعبودية"، لكن ذلك كان يتبعه ضرب وجلد في كل مرة.

كان السعودي يتاجر بالمواد الغذائية بين المدن الخاضعة لسيطرة داعش، وقد جنى الكثير من المال، وكانت تلك ذريعته للتملص من التوجه إلى ميادين الحرب. كان يعود إلى الدار مساء بوجه عبوس كالح بحيث لم يكن يرى ما تحت قدميه.

أغلب الذين ابتاعوا ليلى، كان العنف والقسوة القاسم المشترك بينهم. "كان مزعجاً جداً... كانوا يريدون إغراق العالم في بركة من الدم بدون أن يعرفوا هل أن أيامهم ستتيح لهم ذلك أم لا... ألقى كمبيوتره المحمول في حضني ذات مرة، وقال تعلمي درساً جديداً. كان درساً في الذبح وقطع الأيدي والأرجل".

تقول ليلى إن مشاعرها ماتت جميعاً. فكيف لمشاعر إنسان أن تبقى حية في ظل الحياة في مدينة شغل أهلها الشاغل هو الاتجار بالبشر والحديث عن طرق الذبح والتعذيب؟

"في البداية، ولكثرة اطلاعي على تلك الصور، كنت أتقيأ كل مساء وأشعر بأن قلبي يذوي. كانت الجرائم بشعة جداً، بحيث لا أعلم كيف أرويها لك. كانت هناك الرؤوس والأيدي والأرجل والآذان المقطوعة. كان هناك أشخاص يجثون على ركبهم خاضعين تمرر السكاكين على رقابهم".

من بين مقاطع الفيديو التي شاهدتها وذهلت لهول ما فيها، فيديو لأحد المسلحين الباكستانيين كانت ليلى عنده فترة. كان منهمكاً في جز رأس شخص يرتدي بدلة برتقالية اللون. أبكى المشهد ليلى كثيراً في تلك الليلة. كان يتراءى لها بأن تلك الرأس تحمل المئات من الآمال والأحلام التي لم تتحقق بعد، كانت تتساءل ترى كيف ودعت عينا الضحية العالم في اللحظة التي وضع السكين على رقبة صاحبها؟

بكت ليلى، لكن ما جدوى الدموع في ظل خلافة لا ترحم؟

من هم الذين كان داعش يدللهم؟

كأي شارٍ آخر، باع هذا الشاري أيضاً ليلى بعد فترة لأبي حمزة: "كان أبو حمزة رجلاً لم أره قط ذاهباً إلى القتال. لكنه كان دائم الحديث للمسلحين وكان يحدثهم عن الجنة وعن الملائكة. كان عمله الرئيس يقتصر على بيعنا وشرائنا. لكن لا، كنت أشعر بأنهم لا يأخذونه للقتال لأنه جبان جداً، لكنهم مع ذلك كانوا لا يستغنون عنه لأنه كان ثرياً".

خلال تلك السنوات، وإلى جانب معاناتها، لاحظت ليلى بأن هناك أشخاصاً يدللهم داعش كل دلال. كان مجال تخصص هؤلاء يهم داعش وتطور خلافته الوليدة، "كان داعش قد صنف التخصصات، كان هناك أشخاص ضليعون في البرامج الكمبيوترية وتكنولوجيا المعلومات، أو أطباء، لم يكن داعش يرسل هؤلاء إلى جبهات القتال بل يبقيهم في المدن، وكان داعش وحتى أمراؤه يقدمون الخدمات لهؤلاء ويوفرون احتياجاتهم. "كنت أرى أنه يجري توفير كل لوازم منازلهم لهم".

كما كان التونسيون أكثر المدللين من بين مسلحي داعش، فقد كانت للأمراء التونسيين الجرأة على إعادة صياغة قوانين وتعاليم داعش بالصورة التي يشاؤون، وكان ذلك مكافأة لهم على حضورهم في جبهات القتال "كان أكثر المسلحين الذين يقدمون طلبات التسجيل لتنفيذ عمليات انتحارية تونسيون، وهو ما دفع داعش للتغاضي عن مخالفاتهم وعدم معاقبتهم بسببها".

مرة أخرى، قام أبو حمزة ببيع ليلى، وكان الشاري هذه المرة أبا أنس الحلبي، وهو عراقي حمل لقب "حلبي" لأنه كان يقيم في حلب، وقد شعرت ليلى بأن لهذا الشخص قصة:
 
ليلى: لماذا أصبحت داعشياً؟

أبو أنس: اعتقلني الأمريكيون (بدون أن يشير إلى سبب اعتقاله).

ليلى: ثم ماذا؟

أبو أنس: في سجن الأمريكيين، تعرضت لأنواع من التعذيب لا أستطيع الحيدث عنها أبداً، كان وحشياً ومؤلماً.

ليلى: أي أنك تعذبني بنفس الطريقة التي عذبوك بها؟

أبو أنس: نعم، أعرف أغلب الذين ابتاعوك، وكانوا في السجون الأمريكية في السابق.

اشتراها سعودي، هذه المرة. كان شخصاً تركز ليلى في الحديث عنه على رائحته الكريهة "كان أغلب السعوديين قذرين ورائحتهم كريهة، ولإخفاء رائحتهم الكريهة كانوا يستخدمون عطراً رائحته أسوأ من رائحة درنهم، وبعد شهر باعني السعودي إلى أمريكي كانت يتحدث لغة عربية ضعيفة".

كان شراء ليلى من قبل الأمريكي مختلفاً قليلاً، وكان الشاهد على عقد شرائها في محكمة الجواري، مسلحاً أمريكياً آخر. سأل الأمريكي ليلى بالعربية "هل تريدين شيئاً؟" ضحكت ليلى كثيراً عند سماعها هذا السؤال منه، وهذا ما جعله يملها "كان الأمريكيون يحبون تغيير الجواري، وملني بعد خمسة أيام وباعني".

لكنها كانت بيعة ذكية، باعها لإماراتي ثري بضعف المبلغ الذي اشتراها به، كان الإماراتي ثقيلاً شريراً "عذبني بأسوأ الطرق وكلما أراد مضاجعتي صالحني بقطعة من ذهب!".

خلال فترة بقائها عند المسلح الإماراتي، تسنت لها فرصة الذهاب إلى السوق لتبيع الذهب وتبتاع بثمنه هاتفاً محمولاً. هذا الهاتف كان منقذاً لها وفي نفس الوقت وبالاً عليها. حيث بدأ سؤال يدور في رأس ليلى باستمرار، وهو كيف تستطيع أن تتصل بأخيها؟، تم الاتصال وتبودلت الكلمات مختلطة بالدموع والخوف، وتلته اتصالات في الأيام التالية، حتى قال لها أخوها: "لدي خطة جيدة لإنقاذك".

تظاهر أخي بأنه داعشي

"لكي لا أفسد خطة أخي، كان علي أن أحافظ على هاتفي المحمول وأحاول البقاء عند الإماراتي، فقد أطلق أخي لحيته وحصل على زي كزي مسلحي داعش، ولم يمر وقت طويل حتى وصل إلى الرقة. كان يريد البقاء فترة هناك، ثم يأتي إلى الإماراتي على أنه مسلح من داعش يريد شراء جارية، ويشتريني منه، وكانت اتصالاتنا مستمرة خلال تلك الفترة، للتأكد من سير الخطة كما رسم لها".

الحرص على عدم إفشال خطة أخيها كان مثار استغراب المسلح الإماراتي، فلم تعد ليلى الجارية العاصية المتمردة.

بعد كل المآسي التي تعرض لها الإزيديون على يد مسلحي داعش، أصدر البابا شيخ، شيخ خرتو حجي إسماعيل، المرجع الديني الإزيدي العالمي، فتوى أعلن فيها أن على كل الإزيديين استقبال النساء والفتيات اللواتي كن أسيرات عند داعش وتم تحريرهن "والتعامل معهن وكأن شيئاً لم يكن، لأن ما حصل لم يكن بإرادة منهن".

بعد تلك الفتوى، تقبل أغلب الإزيديين بناتهم ونسائهم المحررات من قبضة داعش، لكن البعض لم يكن على استعداد لقبولهن رغم الفتوى، وقد وصف البابا شيخ هؤلاء الأخيرين بـ"الجهلة".

تعرض الإيزيديون، على مر التاريخ، إلى الإبادة الجماعية 74 مرة، ويسمون تلك العمليات بـ"فرمان"، وخلال واحدة من تلك الفرمانات، جرت قبل 150 عاماً، تم سبي 1200 فتاة إزيدية وتوزيعهن على الأمراء وقادة الجيش العثمانيين، ويقول البابا شيخ لو أن صوت المراجع الدينية الإزيدية وصل حينها إلى أتباعهم لأصدروا نفس الفتوى الحالية.

في نهار مشمس من آذار 2017، أخبرها أخوها بأن خطتهم تجري بالصورة التي رسموها وأنه اتصل بالإماراتي ليشتري منه ليلى، وقال لليلى عليك أن تتماسكي عندما نلتقي وأن لا تبدي أي عاطفة نحوي لكي لا يفتضح أمرنا.

خمسة آلاف دولار مزور

طلب الإماراتي من ليلى أن تستعد وتلملم حاجاتها لأنه سيبيعها لمسلح داعشي آخر. كانت تلك البيعة الأولى التي ترغب ليلى أن تتم وتعد الثواني لإتمامها. حلت ساعة اللقاء... لقاء صعب لا يعرف فيه أخت وأخ كيف يكبتان بركان غضب ودموع سنوات من الفراق. ليلى يا أختي الجريحة ألف جرح، أهذا أنت؟

لكي تبعد الشك عنها، تظاهرت ليلى للإماراتي بأنها لا تريد رؤية المشتري الجديد، وقالت له أريد البقاء عندك، لكن الإماراتي قال غاضباً: لست أنت من تتخذين القرار هنا "وقال لي إن لم تكوني تريدين الذهاب إلى هذا الزبون، هناك مغربي يريد أن يبتاعك، وسأبيعك إياه، فخفت كثيراً وقلت لا، سأذهب مع هذا".

دسّ أخ ليلى يده في جيبه وأخرج حزمة دولارات وبدأ يعدها. عد منها خمسة آلاف دولار ودفعها للبائع. كان الألم يعتصر قلب ليلى لحظتها، وتتساءل بأي حال استطاعت عائلتها تدبير هذا المبلغ الكبير لشرائها، دون أن تعلم أن أخاها جلب معه عملة مزورة، "تم عقد زواج الجواري بيني وبين أخي وجاؤوا بشاهد، وقالوا لأخي لقد اشتريت جارية مطيعة ونتمنى أن تقضي معها وقتاً ممتعاً"، فابتسم أخوها ابتسامة لا يفهمها غير ليلى وربهم.

تعجبت ليلى من تصرفات أخيها "كان قد اختار لنفسه اسماً داعشياً وكان يتصرف كالدواعش، حتى حركات يديه وأصابعه كانت كحركاتهم".

كان هدر الوقت بمثابة الاقتراب من شفرة سكين داعش، وكان على ليلى وأخيها أن يرحلا عن الرقة بأسرع ما يمكن "سرنا نحو ثلاثة أيام، لم تعد رجلاي تقويان على حملي، تمزقت أحذيتنا، وأدميت أقدامنا".

كانا قد خالفا قوانين داعش مرتين، فقد خدعهم أخوها، كما جاؤوا بعملة مزورة إلى سوق داعش، لهذا كان قطع رقبتيهما حتمياً في حال إلقاء القبض عليهما. لهذا وكلما وصلا إلى مكان جديد، غير أخوها اسمه. الحرية هي أحلى مكاسب الحياة، لكن الطريق إليها مر وصعب. كان الطريق خطراً بسبب تردد العربات العسكرية لداعش والتي كانت تذهب إلى ساحات المعارك وتعود منها. لكن الطريق في نفس الوقت كان طريق الحرية لليلى. نجيا في الأخير، وتنفست ليلى هواء الحرية من جديد بعد 33 شهراً.

في أواسط تشرين الأول 2018، وصل عدد من الإزيديين في طائرة إلى مدينة مومباي الهندية، وفي قاعة كبيرة ملأى بأشخاص يرتدون أزياء مختلفة، كان أغلب الأنظار موجهاً إلى وجه امرأة حزينة. ثم دعيت تلك السيدة لتتحدث إلى الحضور: "أنا ليلى... ألقى داعش القبض على 19 من أفراد عائلتنا، وتم تحرير عشرة منهم بجهود رئيس وزراء إقليم كوردستان. قصتي هي قصة معانات وآلام كل إزيدي..."

كانت ليلى تتحدث برزانة وبعبارات مختصرة، وكانت كل واحدة من كلماتها تعبر عن مجموعة من الأيام والليالي المثقلة بالآلام والجراح. ثم توجهت لتسلم جائزة "الأم تيريزا" يرافقها التصفيق الحار والحماسي من جانب الحصور.

على مسرح ذلك اليوم المهيب، أطلقت ليلى رسالتها: "انقلوا أخبار هذا الظلم إلى العالم".

لم أعد الآن بحاجة لتخبرني ليلى عن سبب تعليق عينيها بصمت على الصورة المعلقة على ذلك الجدار المنهك. الصورة كانت قطعة من روحها التي اغتيلت ألف مرة وقتلت. لقد اطمأنت ليلى الآن إلى أن قصتها أصبحت معروفة، لكن الخيمة المهترئة التي تذلها رياح الشتاء الباردة، لا تسمح لها بالتفاؤل ولو لدقائق قليلة.

تعليقات

علق كضيف أو قم بتسجيل الدخول لمداخلات أكثر

أضف تعليقاً

النص المطلوب
النص المطلوب